ي الآونة الأخيرة، قمت بزيارة للمغرب، وذلك بغية حضور مؤتمر عقد في تمام
الساعة التاسعة مساء يوم الجمعة الموافق 17 يونيو 2011. في ذلك، وفي
التوقيت المذكور على وجه التحديد، كانت معظم مظاهر الحياة العادية في
المغرب بأكمله تقريباً، قد توقفت إلى حد كبير، والتصقت أعين الناس جميعاً
بشاشات التلفاز الحكومي، لسماع البث الحي للخطاب التاريخي الذي كان يلقيه
العاهل المغربي الملك محمد السادس. في هذا الخطاب، أوضح الملك، وبتفصيل
كبير، كافة الخطط الرامية لتحقيق الإصلاح الدستوري في بلاده، بما في ذلك
تفويض جزء كبير من سلطاته إلى برلمان منتخب وحكومة تنبثق عن البرلمان
تجسيداً لإرادة الشعب. ووفقاً لما جاء في الخطاب فإن الملك سيحتفظ بسيطرته
على الشؤون الخارجية والدينية، وعلى مؤسسة الجيش أيضاً، على أن يتم انتخاب
حزب الأغلبية في البرلمان من خلال انتخابات عامة، ويقوم الحزب صاحب
الأغلبية باختيار رئيس الوزراء. وحسبما جاء في الخطاب أيضاً، فإن سلطات
رئيس الوزراء ستشمل حق تعيين الوزراء والمحافظين وإقالتهم من مناصبهم. وسوف
يكون لدى البرلمان الجديد سلطة أكبر في صياغة القوانين وسن التشريعات
الجديدة، كما سيسمح لمؤسسة القضاء بقدر من الاستقلالية أكبر مما هو موجود
حالياً.
وسيجرّم الدستور الجديد التعذيب، والإخفاء القسري للمشتبه بهم، كما سيحد من
قدرة السلطة الأمنية على تنفيذ الاحتجاز التعسفي، وسيمنع كافة أشكال
التمييز التي كانت تمارس ضد المواطنين أحياناً. وكان من ضمن ما قاله الملك
المغربي في خطابه أنه إذا ما أخذنا في الحسبان مدى التماسك الذي يميز
المكونات المختلفة لهويتنا الوطنية الموحدة والغنية والمتنوعة، بما في ذلك
المكونات العربية والإسلامية، والبربرية، والصحرواية، والأفريقية،
والأندلسية، واليهودية، والمتوسطية، فإننا سنرى أن مسودة الدستور تؤكد
مكانة اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للمملكة، كما أنها تنص على أن
الدولة تتعهد بحماية هذه المكانة وتعزيزها.
وإذا ما تم تنفيذها بالفعل، يعد إقرارها من خلال استفتاء شعبي يشارك فيه
المغاربة في الداخل والخارج، فإن التغييرات الدستورية الموصى بها من اللجنة
التي تم تشكيلها مؤخراً لذلك الغرض، سوف تمثل، دونما أدنى شك، خطوة كبيرة
للأمام نحو مجتمع مغربي أكثر ديمقراطية وانفتاحاً على الحريات السياسية.
لكن، وكما هو الحال دائماً، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. وإذا ما أمعنا
النظر في تلك التفاصيل، فسوف نجد أن السلطات المتبقية للملك سوف تظل كبيرة
مع ذلك. ففيما يتعلق بالبرلمان على سبيل المثال سوف يحتفظ الملك بسلطة حله،
وسلطة المشاركة في اختيار الوزراء الرئيسيين في الحكومة.
ومن المقرر أن يصوت الشعب المغربي على قبول هذه التعديلات في استفتاء وطني،
يعقد كما هو مقرر اليوم الأول من يوليو 2011. وسوف يكون من الأمور المثيرة
للاهتمام الانتظار حتى نرى ما إذا كانت اللغة الدقيقة التي استخدمها
العاهل المغربي لوصف التنوع المجتمعي لبلاده، سوف تظل باقية في النسخة
النهائية للدستور أم لا.
وهناك طريقتان للحكم على خطاب الملك وكل ما ينطوي عليه من وعود.
فالمتفائلون سوف يذهبون إلى أن المغرب، وبالمقارنة مع الدول الأخرى في شمال
أفريقيا، وفي باقي مناطق العالم العربي، يعتبر منارة للاستنارة
والاستقرار، وأنه بات الآن، بعد خطاب الملك، على الطريق الصحيح الذي سيقوده
في نهاية المطاف للديمقراطية في ظل الملكية الدستورية.
وسوف تترتب على ذلك بالطبع منافع عديدة للمغرب، ولجهوده الرامية للاقتراب
من الاتحاد الأوروبي، والتحول إلى لاعب رئيسي في بنية القوى البازغة في
جنوب حوض الأطلسي، والتي تشهد في الوقت الراهن مزيداً من التفاعل بين الدول
الواقعة في جنوب أميركا وتلك الواقعة في غرب أفريقيا. وهي البنية التي
يمكن للمغرب أن تلعب دوراً كبيراً في إطار تفاعلاتها الإقليمية الداخلية.
وبفضل بنيته الأساسية الجيدة، والاستثمارات والإمكانات التي يتوافر عليها،
والتي يمكن أن تؤهله للعب دور المحور الرئيسي في مجال النقل الجوي والبحري،
استطاع المغرب النجاة من تأثيرات الربيع والصيف العربيين، والبروز كدولة
أكثر نجاحاً من الدول الأخرى التي تأثرت بذلك الربيع العاصف.
وهناك آراء معارضة عُبر عنها في الاحتجاجات الصغيرة، التي انطلقت في بعض
مناطق المغرب عقب خطاب الملك. وأصحاب هذه الآراء يرون أن الدستور الجديد،
وإن بدا مستنيراً على الورق، وأن خطاب الملك حتى وإن بدا صادقاً وتقدمياً
في محتواه، فإن المحك الحقيقي للحكم على كل ذلك هو رؤية ما إذا كانت جميع
السمات والملامح الجديدة للإصلاح، والتي وردت في ذلك الخطاب، سوف توضع
فعلاً موضع التنفيذ الملتزم والمنضبط، أم أنها ستظل نظرية ورهن الأوراق،
وما إذا كان الملك ذاته سوف ينجح في تطهير بعض المؤسسات الرئيسية من الفساد
والمحسوبية، واللذين يظلان مصدراً من مصادر المرارة الشديدة داخل المجتمع
المغربي. علاوة على ذلك فإن المغرب مثله مثل الدول الأخرى في المنطقة،
يعاني من مشكلاته الاقتصادية الخاصة، ومنها على سبيل المثال نسبة البطالة
المرتفعة، وعدم توافر فرص العمل، بالإضافة للاستقطاب الأيديولجي بين
الإسلاميين المتطرفين وبقية أطياف المجتمع المغربي.
ومع ذلك، وإذا ما حصل الدستور على التزكية بأغلبية أصوات المغاربة اليوم،
وهو الاحتمال المرجح إلى حد كبير، وما لم تحدث أمور غير متوقعة وغير قابلة
للتنبؤ بها، مثل أحداث إرهابية خطيرة على سبيل المثال... فإن المغرب سوف
يكون قادراً على النجاة من الاضطراب والفوضى الموجودين في بعض الدول
العربية الأخرى في الوقت الراهن، وهو ما سيمكنه في المجمل من البروز كلاعب
أكثر قوة في البيئة الدولية الواقعة فيما وراء منطقة الشرق الأوسط.
نقلا عن (الاتحاد) الإماراتية