جائزة نوبل الآداب 2011 للشاعر الأسوجي توماس ترانسترومر:

جائزة نوبل الآداب 2011 للشاعر الأسوجي توماس ترانسترومر:


كلّ ما أريد قوله يلمع خارج المنال مثل الفضّية لدى المرابي





كان أمس اليوم المنتظر، ذاك الذي في وسعه ان يخيّب شتى الآمال او ان ينفخ حياة في الخيبات كافة، اذ اعلن الفائز بنوبل الآداب وكان الأسوجي توماس ترانسترومر. اتى الاختيار ليلبّي جل ما نريده من الفائزين بهذا الاميتاز: ان يكون السيف الذي يكسر اللغة المعلبة والخبيثة، اللغة المجمدة والمفتقرة الى الفائدة.
ترانسترومر هكذا تماماً: ذلك انه شاعر من الصنف الذي لا يكتب عن العالم فحسب وانما يستطيع من طريق قدرة نصه، ان يحوّل مجرى هذا العالم. ينتمي ترانسترومر الى حلقة من الكتّاب، في وسع خيالهم ان يغيّر هيئة التاريخ من دون ادعاء او مغالاة او فيض في الكلام. كان متن قصيدته على مر الاعوام شاملاً وتاماً وإن انتقى الاقتضاب. اتى بنظرة لا تحتمل، الى حد انها تصيبنا بالزغل.
“لا يكفي ان نصمت: ينبغي لنا ان نقول شيئا آخر”. تلك كانت حكمة اراغون، اما حكمة رجل الشعر المبني على صخرة الحداثة والتعبيرية والسوريالية، فكانت ان يصنع من الصمت آلة القول الآخر. تنضح قصيدة ترانسترومر بالتصويرية الى نزعات صوب التشتت والعزلة. رفع الى مستوى المثالية نسقاً خاصاً من الغنائية التي تحمل تجلياً، حيث الطبيعة فاعلة، وموضوعاً محفزاً، وحيث الأنا (في حال وجدت في الاصل) تصير هي الغرض. تتصور قصائد هذا الشاعر الأسوجي الامكنة التي تسكنها كالمياه الجوفية التي لا تلبث ان تطفق من فتحة بئر ولدت للتو.
كانت العاهة الجسدية قدر هذا الأسوجي، اذ حلّت الجلطة عليه في 1990، بعد عام على اصدار مجموعته الشعرية العاشرة، أجل العاشرة فحسب، “للاحياء والموتي”. منعته الجلطة من الكلام لستة اعوام، واتت على شاكلة الاعاقة التأملية. جاء الصمت فكان للشاعر ان يخاوي السكون، واستطاع ان يفهمه، ليفهم نفسه على نحو أفضل. هكذا عاد مع مجموعة “غندول الاسى” التي استدان عنوانها من مقطوعات لفرانتز ليتز. كان العنوان دليلنا الى الشاعر وهاوي الموسيقى. باع مؤلف العودة ثلاثين الف نسخة من الديوان في أسوج، ومثل “غندول الاسى” اقرار الشاعر بمحدودية قوته التعبيرية، حيث الكلمات وكل ما يود ان يفصح عنه “يظهر لماعاً وانما خارج متناوله”.
تعاطى من موقعه كعالم نفساني مع المسائل الخبيئة وحاذى سكّان السجون من الاحداث والمدانين ومدمني المخدرات، ما قدّر له ان يصل الى القعر ليكتب قصيدة “الى الاعمق”. قصيدة نقرأ فيها: “في الطريق العام الى المدينة/ حيث الشمس منخفضة/ تتكثف حركة السير لتزحف/ انه تنين وامض وهو في حال سبات”.
كرّم المحكِّمون الاسوجيون اذاً، واحداً من بلادهم، من دون رفة جفن. فعلوا ذلك لاقتناعهم بأن الشاعر هو ملهم الآخرين. كيف لا، وهو الذي يقطن جزيرة نائية في البلطيق، بعيداً من هرج اليومي وسخفه، ليلاحق صوفية تبحث في ظلمة الاشارات الى نظام اعلى. بيد ان اكثر ما نؤثره في جوار الشاعر، تلك العين، العين الثالثة، نكاد نقول، التي تلتقط ذبذبات الارض كالكاميرا، فتخرج بصور تنير الواقع ثم تقلبها بعدذاك من اجل ان تعطي اللامرئي قدرته على الرؤية. ابياته هي اذاً مزيج عجيب ومثير للاعجاب في آن واحد، من لوحات رامبرانت الى تقشف بيكيت، حالات يستخرج منها رؤى كأنها منتشلة من العدم.
ان الطريق الى اليقظة هو ربما اقرب ما يكون في حيواتنا اليومية الى حركة الانتقال من اللاوجود الى الوجود، والى صور الاحلام. والحال، ان النوم واليقظة مألوفان لدى ترانسترومر الى حد انهما يصيران لازمتين. في عرفه ان الحالات الانتقالية بين النوم واسترجاع الادراك، بين العام والخاص، بل وبين الماضي والحاضر، تشكل في اكتمالها مداخل الى ما يمكن تسميته “الفسحة المركزية”. انها فسحة حيث الفرد يكون في باطنه في حال انفتاح وإن غيبي. من هذا المطرح من حضور اللاحضور، تنبثق القصائد، واليه تعود ايضاً.
في نصوص عدة، تحل الطبيعة وعناصرها المتناحرة كصراع بين البحر والارض، لتصير قوى متصادمة تجعل الحرية والتحكم بالكلام في منافسة مع تأثيرات الكون. كتب ترانسترومر عن جزيرته الملقاة في البلطيق، ليفصح عن الحال السياسية في المنطقة، في السبعينات من القرن المنصرم، يوم كانت لا تزال دول البلطيق جزءا من الاتحاد السوفياتي. الحركة والتغيير هما جزء من مشهده الشعري، على الرغم من ان رؤاه لـ”السلام الفضائي” تلقّى سهام الازدراء من الكتّاب الراديكاليين. شعره شعر الوتيرة الخاصة، لانفصاله في المفهوم عن شعر سواه المنوط بالمعرفة والانفعال والآليات الميكانيكية والتنبؤ.
اتهم ترانسترومر بعدم احترام تقاليد بلاده، وبعجزه عن فهم المسائل السياسية في رواياته وقصائده. ولكن لا ريب ان في نصه لغة استقاها من الاحتكاك المباشر والقدري مع الملموس. ملموس من قماشة قد لا يراها كثيرون

جبالٌ سوداء

عند المنعطف التالي، انفصل الباص عن ظل الجبل البارد،

أدار خطمه نحو الشمس وزحف صوب الممرّ صائحا.

كنا نتدافع فيه، وتمثال الديكتاتور معنا،

ملفوفا بورق الجرائد، والقنينة تمرّ من فم الى آخر.

الموت، شامة الولادة هذه، كانت تكبر بسرعات متفاوتة

في كلّ منا.

وهناك، فوق، عند الجبال، أدركت زرقة البحر السماء.



***

في آذار 1979

متعباً من جميع الذين يجيئون بالكلمات،

كلماتٌ كثيرة وما من لغة،

ذهبتُ الى الجزيرة المكسوّة بالثلج.

ما لا يروَّض ليس عنده كلمات.

صفحاته البيضاء تتمدد في كل الاتجاهات!

أقع على آثار قوائم أيّل في الثلج:

أخيرا!

ما من كلمات، بل لغة.



***

الذكريات تراقبني

في أحد صباحات حزيران، عندما يكون الوقت مبكرا

لكي استيقظ ومتأخرا لكي اعاود النوم،



أخرج الى الاخضرار المشبع

بالذكريات، فتلاحقني نظراتها.



تظل خفيّة، تذوب

في الكلّ، حرباء كاملة.



قريبة هي حدّ اني اسمع انفاسها،

رغم ان نشيد العصافير مصمّ.





***

بطاقات بريدية سوداوية

1

جدول الاعمال مترع، والمستقبل غير أكيد.

السلك يدندن لازمة مشرّدة.

ثلوجٌ تتساقط في المحيط الرصاصي.

ظلالٌ تتعارك على الرصيف.



2

يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت

ليأخذ مقاساتنا. هذه الزيارة تُنسى

وتستمر الحياة. لكن الثوب

يُُخاط بلا علمٍ منّا.



***

شطوب النار

خلال هذه الأشهر المعتمة، لم تلمع حياتي إلا عندما كنتُ امارس الحبّ معكِ

على غرار القطرب التي يضيء وينطفىء، يضيء وينطفىء- يمكننا أحيانا أن نقتفي طريقه

في الليل بين أشجار الزيتون.



خلال هذه الأشهر المعتمة، ظلّت حياتي متهالكة وجامدة

فيما كان جسدي يذهب مباشرة اليكِ.

في الليل كانت السماء تعوي

وكنّا سرّا نحلب الكون، لكي نظل على قيد الحياة.



***

نيسان وصمت

الربيع خالٍ.

حفرة مخملية معتمة

تزحف قربي

من دون ان تحدّق فيّ.



جلّ ما يلمع

هو هذي الازهار الصفراء.



ظلي يحملني

مثل كمانٍ

في علبته السوداء.



كلّ ما أريد قوله

يلمع خارج المنال

مثل الفضيّة

لدى المرابي.



***

تواقيع

يجب أن اجتاز

العتبة المظلمة.

قاعةٌ.

الوثيقة تشعّ، بيضاء.

ظلال كثيرة تتنقّل فوقها.

الجميع يريد توقيعها.



الى أن يدركني النور

ويطوي الزمن.



ترجمة وتقديم: جمانة حداد

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]