خطبة جمعة
الحمد لله رب العالمين .. خلق الدنيا والآخرة وجعل المؤمنين فيها على صراطه المستقيم، ونَهْجِهِ القويم، ليفوزوا بعد ذلك بكمال النعيم والنظر إلى وجهه الكريم، وأضلَّ فيها الكافرين والمشركين، والعصاة والمذنبين، ليجعلهم في الآخرة في جهنم وبئس القرار وفي العذاب الأليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق بقدرته، وجعل أكرم خليقته هو الإنسان الذي كرَّمه في كُلِّ كتبه السماوية، وأعلى شأنه وسخَّر له جميع الكائنات العلوية والسفلية، وجعله هو المقصود بالتشريعات السماوية، والمُخاطب بالكتب الإلهية، والمخصوص بإرسال الرسل - مبشرين ومنذرين - لنعلم قدر الإنسان ومكانته عند أكرم الأكرمين عزَّ وجلَّ.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، أقام الله عزَّ وجلَّ به الشريعة السمحاء، ونشر به ضياء الله ومحق به كل ظلماء، وبدَّد به أفعال الجاهلية، وجعل كل من اتبعه صلى الله عليه وسلم من خيار البرية، داخلاً في قول الله في كلماته القرآنية: ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( (110آل عمران).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، المبيِّن بقوله أسباب النعيم وأسباب الجحيم، والهادي بفعله وهداه إلى الصراط المستقيم والنعيم المقيم. صلى الله عليه وعلى آله الذين أيدَّوه وتابعوه، وأصحابه الذين آذروه ونصروه، وكل مَنْ تبعهم على هذا الهدى إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
تعالوا معي نلحق بأسماعنا، ونتمعن بأبصارنا في مسيرة نبيِّنا في خطبة الوداع، وفي حجته المباركة التي حجَّها في العام العاشر من الهجرة النبوية. حجَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد أن دعا أصحابه جميعاً للحجِّ معه، ليُنسِّك المناسك، ويُظهر الشرائع، ويُبيِّن صحيح أعمال الحجِّ التي يتقبلها الله عزَّ وجلَّ، وهو يتقبَّلُ من المتقين، وخرج مع حضرته صلى الله عليه وسلم في هذه الحجَّة ما يزيد عن المائة ألف، كلُّهم يستمعون إلى حضرته، وكلهم يفعلون ما يأمرهم به، وما يوضحه لهم من شريعته، وأعانه الله عزَّ وجلَّ وقوَّاه حتى كان يُسمع الحاضرين أجمعين رغم بُعد مسافاتهم!!
يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منى يوم الثامن من شهر ذي الحجة، فأخذ الله بأسماعنا أجمعين حتى سمعنا صوته ووعينا كلمات خطابه، حتى من كانوا على ذرى الجبال، أوصل الله عزَّ وجلَّ لهم صوته صلى الله عليه وسلم إلى أسماعهم وهم في أماكنهم.
خطب الناس في هذه الحجَّة المباركة عدَّة خطب مدوَّنة ومسجلة، ونأخذ منها ما يستلفت النظر لنا، وما نحن أحوج إليه الآن، دخل أولاً البيت الحرام، وطاف بالبيت، وبعد أن طاف بالبيت توجه إلى الكعبة وقال:
{مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا} (سنن بن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)
ثم خطب في يوم الثامن في مِنى، وخطب في يوم التاسع في عرفات، وخطب بعد ذلك في المزدلفة، وخطب بعد ذلك في مِنى في الأيام المتتاليات، وهناك عبارة ردَّدها في كل هذه الخُطب ليسمعها جميع الحاضرين، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب حتى تبلغ كلماته أمته كلها إلى يوم الدين، يقول فيها:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } (صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما)
وكرر هذا الكلام في كل خطبه المباركة، ومن يرجع إلى خُطب الوداع يجد هذا النص مع اختلاف ألفاظه بين خطبة وأخرى، لكن كلها في هذا المعنى، ووضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حديث آخر فقال:
{ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَالُهُ وَعِرْضُهُ وَدَمُهُ، حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ } (سنن أبي داود)
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم حرمة، أي: حصانة إلهية حصَّنه بها الله عزَّ وجلَّ، من خرق هذه الحصانة فإنما يعادي الله ويحارب الله جلَّ في علاه، لأن الله جعل لكل مسلم حصانة، إذا قال المرء - ولو حتى كان كافراً - (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أصبحت له هذه الحرمة، لا ينبغي لنا أن نسيئه بحديث أو كلام، ولا ينبغي أن نعتدي على ما يملكه من كل أصناف الخيرات ومتع الحياة الدنيا، ولا ينبغي أن نريق له ولو قطرة دم واحدة، لأنه في حصانة أحكم الحاكمين ورب العالمين عزَّ وجلَّ، قال صلى الله عليه وسلم:
{ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } (البخاري ومسلم)
دخل في الحصانة الإلهية، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعتدي عليه، ولا أن يُسيء إليه، ولا أن يأخذ ماله بأيِّ كيفية غير شرعية، لأنه في حصانة ربِّ العالمين وأحكم الحاكمين عزَّ وجلَّ. هذه الحصانة الإلهية من عجيب البصيرة النبوية أن يُحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن انتهاكها في هذا العصر، فيقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده:
{ إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ. قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الآنَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ. قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قَالَ: لا، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُمِ الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ }
بيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا البيان الحال الذي نحن عليه الآن، انتهكنا حرمات بعض!! واستحللنا الدماء التي حرَّمها الله!! واستسغنا الحصول على الأموال بما يخالف شرع الله!! ونسينا أن لكلِّ مُسْلِمٍ في رقبتنا - أياً كان شأنه – حرمة سيحاسبنا عليها الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة!! وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم مسوغات القتل في هذا الزمان، عندما قال:
{ إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ، قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ } (مسند الإمام أحمد)
يكذبون في الدعاوي، ويكذبون في التُّهم التي يلفقونها لمن يريدون قتله، وفي الفتاوى التي يفتون بها لمن يريدون أن يستحلون دمه، وكلها على غير أساس شرعي من شرع النبيِّ، أو من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهو خير كتاب أنزله الله عزَّ وجلَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
كَثُر المفتون الذين يُفتون بالقتل، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرج أشد الحرج من القتل، قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما:
{ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَقَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ } (صحيح مسلم)
فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأسامة ليعلم الجميع حرمة الدم، حتى للكافر الذي نطق بالشهادتين!! فما بالكم بمن يُصلي ويصوم ويتقي الله، ويعمل أعمال الخير التي أمره بها الله، ويسعى في الأرض عاملاً بشرع الله، كيف يستحل القتل؟! وكيف يَقتُل؟! نبأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من يفعل ذلك قوم ليسوا من الإسلام في صغير ولا كبير!! ذهب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوزِّع الغنائم فقال: اعدل يا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم:
{ وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: لا، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابًا لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ } (سنن بن ماجة)
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يقتل المؤمنين ويترك اليهود الكافرين إنما من هؤلاء الذين خرجوا على دين الله عزَّ وجلَّ، وليسوا من المؤمنين الصادقين، لأن المؤمن يتورع أن يقول كلمة تؤذي أخاه، ويتورع أن يشير إلى أخيه بحديدة أو سلاح في يده، ويتورع أن يأخذ مال أخيه بغير إذنه، ويتورع أن يغشه أو يخدعه في بيع أو شراء، ويتورع عن أيِّ أمر يسيء لأخيه، لأنه يعلم أن المحاسب على ذلك كله خير الحاسبين، وهو ربُّ العالمين عزَّ وجلَّ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم - عندما سُئل: هل لقاتل المؤمن توبة؟ قال:
{ لَيْسَ لِقَاتِلِ الْمُؤمِنِ تَوْبَةٌ } (الدار قطني)
لأنه كيف استحل قتل المؤمن من الأول؟!! لا يحل قتل امرئ مسلم إلا الثيب الزاني أو القاتل، لأن من قتل يُقتل، أو التارك لدينه المفارق للجماعة، أو كما قال: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة}
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي نوَّر بصيرتنا بالقرآن، وأنار صدورنا بالإيمان وجعلنا من عباده المسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرَّع الشرائع، وأنزل الأحكام، ليعلم كل الأنام ما يريده ويحبُّه منَّا الملك العلام عزَّ وجلَّ. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، جعله الله عزَّ وجلَّ فارقاً بين الحقِّ والباطل، ومبيناً للطيِّب والخبيث، ودالاً بفعله وقوله على مكارم الأخلاق وجمال تعاليم هذا الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد السابق إلى الخَلْقِ نُورُه، والبادي بالهداية ظهوره، والشفيع يوم الدين للعصاة والمذنبين من أمته أجمعين. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يجعلنا من المستمسكين بسنَّته، والعاملين بشريعته، والناهجين على نهجه أجمعين.
أيها الإخوة جماعة المؤمنين:
ينبغي علينا أجمعين في هذا العصر أن نعلم في أنفسنا، ونعلِّم أولادنا وبناتنا وزوجاتنا والمسلمين أجمعين حقَّ المسلم على المسلم، فإن للمسلم على المسلم
حقوقاً لا تُعد، ذكرها كتاب الله، وبيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقوق نحن في أَمَسِّ الحاجة إليها الآن جماعة المؤمنين.
هل يليق بمجتمع المؤمنين أن يروِّع المؤمنين من المؤمنين؟! وأن يخاف المسلمون من المسلمين؟! وأن يكون الذي يعتدي بالسرقة أو النهب أو القتل للمسلمين مسلماً من المسلمين؟! إن هذه بادرة وظاهرة غريبة في هذا الدين!!! وهي التي جعلت الخلق الآخرين يُصَدُّون عن الدخول في دِينِ الله، لأنهم يقولون: إذا كان هؤلاء يقتلون بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، فكيف يؤتمنون على غيرهم؟!! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:
{لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } (البخاري ومسلم)
فبيَّن أن الذين يضربون رقاب بعض دخلوا في دائرة الكفر - والعياذ بالله:
{إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ} (البخاري ومسلم)
والإسلام أسس قاعدة قرآنية شرعية: ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( (164الأنعام). لا ينبغي أن نؤاخذ الابن بذنب أبيه، ولا الأب بجريمة ابنه. فلِمَ يُؤاخِذُ المسلمون ضعفاء وفقراء المسلمين – ولو في نظرهم – بذنب الرؤساء والحاكمين؟!
ما لهؤلاء المساكين وهذا الأمر؟!! نفترض أن بينك وبين حاكم أو وزير أو أمير أو قائد خصومة، ما ذنب المساكين الذين يُؤمِّنون الأوطان، ويحرسون البلدان، وتأخذهم غدراً؟!! والغدر ليس من شيم المسلمين!! بل إن أهل الجاهلية الأولى لم يكونوا غادرين!!
كان النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة حربية، وهطل المطر واستراح الجيش، وكان النبي قد أصاب ثوبه بلل، فخلع ثوبه ونشره على شجرة، وعلَّق سيفه في غصن من الشجرة، ونام تحتها، وليس معه حراس، ووقف رجل من الأعداء فوق الجبل فنظر وقال: تلك فرصة سانحة، مُحَمَّدٌ بمفرده!! أنزل عليه وأقضي عليه لنرتاح منه ويرتاح العرب أجمعين.
ونزل الرجل ولم يلحظه الجند، وأمسك بالسيف - ولكن العرب كانوا يعاتبون ويلومون الغادر، فلا يقتل غيلة ولا غدراً - فأيقظ النبيَّ حتى لا يقتله غيلة ولا غدراً، وقال له: من يحميك مني يا محمد الآن؟ قال: الله، فخرجت كلمة الله فاهتز لها جسم هذا الرجل، وارتجفت أعضاؤه، وسقط السيف من يده، وتيبست مفاصله، وأصيب بشبه الشلل، فأمسك النبيُّ بالسيف وقال: ومن يمنعك مني الآن؟ قال: عفوك وصفحك، قال: عفوت عنك.
الشاهد الذي أريد أن أبيِّنه: أن العرب - وهم في شدة الجاهلية قبل أن يشرح الله صدرهم للإسلام - كان يستحي الرجل منهم أن يقال قَتَل غيلة أو غدراً، لأنه هذا لا يُعدُّ بطولة، ولا صاحب بأس عندهم.
وكانوا يخافون من الاعتداء على البيوت وحرماتها، لأن النبيَّ في هجرته ترك الإمام عليًّا في موضعه ينام مكانه وخرج، وكان مائة رجل مدجج بالسلاح خارج المنزل، فأرادوا اقتحام المنزل ظانين أن النبيَّ في فراشه، فسمعوا صوت امرأة، فقالوا لبعضهم: ماذا تقول العرب في شأننا؟ أنقتحم البيوت على النساء!! هذا أمر لا يليق بنا!!
هؤلاء في جاهليتهم كانوا خيراً مما نراه الآن من المسلمين الذين يقتلون المؤمنين المساكين الفقراء غيلة وغدراً!!! ليس هذا من شيم الإسلام، وليس هذا من أخلاق الإيمان، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ} (البخاري ومسلم)
سواء كان الغدر في القتل، أو كان الغدر في البيع، أو كان الغدر في الشراء، أو كان الغدر في أيِّ تعاملات فيما بيننا، الغدر من شيم المنافقين:
{إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} (البخاري ومسلم)
فالغدر من شيم المنافقين وليس من شيم المؤمنين، فالمؤمن دائماً وأبداً صادق في قوله، صادق في فعله، يراقب الله عزَّ وجلَّ في كل حركاته وسكناته، لا يفعل إلا ما يُرضي الله، ويمتنع عن فعل ما تطلبه نفسه لو كان يخالف شرع الله، أو يخالف نهج حبيب الله ومصطفاه.
فعلينا جميعاً معشر المؤمنين أجمعين أن نوضِّح لكلِّ مَنْ نجلس معهم - في أيِّ زمان أو مكان - حقوق المسلمين على المسلمين، وأهمها حرمة دمه، وحرمة ماله، وحرمة عرضه، لأن هذا هو أساس إصلاح المجتمعات الإسلامية، والأساس الذي تقوم به المجتمعات الإيمانية: ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ â( (29محمد).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم