قال تعالي: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (30 ــ البقرة).
ينتشر في معظم كتابات السلف والخلف قولهم: (الإنسان خليفة الله في الأرض). إلا أن القوم قد اختلفوا في من (المخلوف)؟، فقال قائل منهم: آدم خليفة الله في الأرض، وقائل: آدم خليفة الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل آدم، وغيرها من الأقوال التي لا برهان عليها، وهذا الخلاف جاء من خلط القوم بين دلائل ومعاني الأفعال: (رسل، وكل، فوض، خلف) وظنوا أنها جميعا تحمل معني واحدا، ولو تقصينا دليل ومعني كل فعل منها لوجدنا أن كل فعل منها يحمل دلالة ومعني يخالف الآخر، فالفعل (رسل) أو (أرسل): يدل علي بعث غيرك إلي شيء من دون حضورك. والفعل (وكل) أو (أوكل): يدل علي اعتمادك علي غيرك في أمرك وجعله نائبا عنك. والفعل (فوض): يدل علي اتكالك علي غيرك في رد أمرك إليه.
أما الفعل (خلف) محل النقاش: فيدل علي مجيء شخص بعد شخص ليقوم مقامه، ويدل علي التأخر خلاف التقدم، إلا أن القوم جعلوا كل هذه الأفعال تحمل مفهوما واحدا ودلالة واحدة مما جعلهم يحملون معني كل من الرسول والوكيل والمفوض إلي معني الخليفة ليستبدلوا به المعني الحق للخليفة من دون علم ولا برهان ولا سلطان، فظنوا خطأَ أن الله جعل آدم في الأرض خليفة له بمعني نائبا عنه، أو جاء به ليرد إليه أمر تدبير شئون الأرض ويقيم الحق والعدل فيها، أو جعل آدم خليفة للجن الذين كانوا يسكنون الأرض حسب زعم القوم، وبقولهم هذا قد أضلوا الناس عن إدراك الحق في خلق آدم واستخلافه في الأرض فوقعوا في الضلال بعيد.
ولو وقفنا علي المعني والدلالة الحق لكلمة (الخليفة) لوجدنا أنه من الخطأ الفاحش أن يكون آدم خليفة الله في الأرض، لأن من دلالات الفعل (خلف) أنها تدل علي الخلف ضد القدام، قال تعالي: (يعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). (البقرة: 255)؟ وقال تعالي: (فَالْيوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيةً) (يونس: 92)؟ ومنها (خلف) ضد تقدم ويقال: تخلف فلان فلانا إذا تأخر عنه أو جاء خلف آخر وقام مقامه، ومصدره الخلافة، نحو: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ) (مريم: 59) ويقال لمن خلف آخر فسد مسده، وخلف فلان فلانا، قام بالأمر عنه، والخلافة لا تكون إلا نيابة عن غير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته؛ وإما لعجزه؛ قال تعالي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ) (فاطر: 39) وقال: (وَيسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيرَكُمْ) (هود: 57). أما الاختلاف والمخالفة: فهو تنازع في خلافة شخص لآخر في قوله أو فعله رغم وجوده، قال: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ من بينهم)، (مريم: 37) وَلاَ يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود:118)؟ (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) (الذاريات:
وقال: (وَلاَ تَكُونُواْ كالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَينَاتُ) (آل عمران105).
وبهذا المعني وبهذه الدلالة لكل من كلمة خلف وخلافة وخليفة لا يمكن أن يكون آدم خليفة لله في الأرض، لأن الخليفة في الأصل هو الذي يخلف غيره ويأتي وراءه أو بعده بدلاً عنه في عمل يعمله، وهذا محال في حق الله لأن الله لم يكن مقيما في الأرض وتركها ثم جعل آدم خليفة له، ولم يكن الله يعمل عملا ما في الأرض ثم جاء بآدم من ورائه أو بعده بدلا عنه للقيام بذلك العمل، ومن المحال أن يجعل الله آدم خليفة له ليتولي عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي، ولا يستقيم معني الخلافة مع جعله في الأرض مدبراً يعمل ما يريده الله في الأرض، لأن الله تعالي لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها ليستخلف آدم من بعده، ومحال أن يكون الخليفة خليفة إلا لمن كان له مقام حقيقي في محل الخلافة ثم رحل، ومحال أن يخلف شخص شخصا آخر لم يكن له وجود في محل الخلافة.
## الخليفة والخلافة في القرآن:
ذكرنا فيما سبق أن معني الخلافة أو الخليفة هو الذي يخلف غيره ويأتي وراءه أو بعده بدلاً عنه في عمل يقوم به، وهذا محال في حق الله لأن الله لم يكن مقيما في الأرض وتركها ثم جعل آدم خليفة له، ولم يكن الله يعمل عملا ما في الأرض ثم جاء بآدم من ورائه أو بعده بدلا عنه للقيام بذلك العمل، ومن المحال أن يجعل الله آدم خليفة له ليتولي عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل أو الوصي، ولا يستقيم معني الخلافة مع جعله في الأرض مدبراً يعمل ما يريده الله في الأرض لأن هذه ليست خلافة، لأن الله تعالي لم يكن حَالاً في الأرض ولا مقيما فيها ليستخلف آدم من بعده، ومحال أن يكون الخليفة خليفة إلا إذا كان للمخلوف مقام حقيقي في محل الخلافة قبل أن يرحل، ومحال أن يخلف شخص شخصا آخر لم يكن له وجود في محل الخلافة.
فلا يستقيم المعني إذا قلنا مثلا: إن الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) جاء رئيسا للولايات المتحدة خلفا للرئيس (جاك شيراك)، لأن الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) لم يكن يوما رئيسا للولايات المتحدة أو مقيما فيها بصفة دائمة حتي يأتي (باراك أوباما) خلفا له، إنما يستقيم المعني حين نقول جاء الرئيس (باراك أوباما) رئيسا للولايات المتحدة خلفا للرئيس (جورج دبليو بوش)، لأن الرئيس بوش كان رئيسا فعليا للولايات المتحدة الأمريكية وليس الرئيس (جاك شيراك)، إذن فكيف يستقيم الأمر إذا قلنا إن آدم خليفة الله في الأرض ونحن نؤمن ونوقن أن الله من المحال أن يكون قد استوطن الأرض أو أقام فيها؟.
وأقدم للقارئ بعض آيات القرآن التي تؤكد هذا المعني:
قال تعالي: (يا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَي فَيضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (26_ ص)
وقال تعالي: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (165_ الأنعام) وقال تعالي: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ) (14_ يونس) وقال تعالي: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّينَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنذَرِينَ) (73_ يونس)
وقال تعالي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ) (39_ فاطر)
وقال تعالي: (وَلْيخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيهِمْ فَلْيتَّقُوا اللَّهَ وَلْيقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (9_ النساء)
وقال تعالي: (إِن يشَأْ يذْهِبْكُمْ وَيسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (133_ الأنعام)
وقال تعالي: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (69_ الأعراف) وقال تعالي: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) (74_ الأعراف) وقال تعالي: (قَالَ عَسَي رَبُّكُمْ أَن يهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ) (129_ الأعراف) وقال تعالي: (وَقَالَ مُوسَي لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (142_ الأعراف) وقال تعالي: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَي إِلَي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) (150_ الأعراف)
وقال تعالي: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ) (169_ الأعراف) وقال تعالي: (فَالْيوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيةً) (92_ يونس) وقال تعالي: (فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيكُمْ وَيسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيرَكُمْ) (57_هود)
وقال تعالي: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (59_ مريم) وقال تعالي: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (55_ النور) وقال تعالي: (أَمَّن يجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيكْشِفُ السُّوءَ وَيجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ) (62_ النمل) وقال تعالي: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (7_ الحديد).
إذن فالخلافة لا تكون إلا لمخلوف كان له وجود حقيقي وفعلي في محل الخلافة.
## الله جعل آدم ولم يخلق آدم:
لقد بينا فيما سبق أن آدم من المحال أن يكون خليفة لله في الأرض، وبما أن آدم ليس خليفة لله فهو خليفة لأحد غير الله، وكون آدم خليفة في الأرض فحتما هو خليفة لأحد كان له مقام حقيقي في الأرض، وهذا يعني من دون شك ولا ريب أن آدم ليس هو المخلوق الأول من الطين وإنما هو خليفة لمخلوق كان قبله من نفس جنسه خلقه الله من طين ثم اصطفي الله آدم من نسل ذلك المخلوق ثم قام بتسويته وتطويره ونفخ فيه من الروح فجعله آدم الذي جاء منه نسل الإنسان.
وقبل استرسالي في هذا الأمر أحب أن أنبه القارئ بأن حديثي في هذا الأمر ليس حديثا علميا، فلن أستشهد بنظريات علم الأحياء ولا بنظرية التطور لـ(دارون)، ولا بعلم الأحافير ولا بعلم الآثار ولا بغيرها من العلوم ذات الصلة، فلست خبيرا في هذه العلوم ولا مطلعاً فيها ولا صاحب تخصص، فما أنا سوي قارئ وحسب لهذه العلوم، أما علمي الوحيد الذي يحملني علي الحديث في هذا الأمر هو علم قرء آيات الكتاب الكريم، ومن هنا أحاول جاهدا أن أقرأ ما جاء في الكتاب الحكيم من آيات تحدثت عن خلق آدم واستخلافه في الأرض.
لذلك فلن يكون حديثي في هذا الأمر إلا قرء لآيات الكتاب الحكيم وحسب، وعلي كل حال هو جهد بشري مني قد يصيب وقد يخطئ، وأطلب من كل عالم بالعلوم التي ذكرتها آنفا أن يبلو ما جاء في حديثي عن قرء خلق آدم واستخلافه في الأرض من آيات الكتاب ويعرضه علي تلك العلوم فينظر مدي الاتفاق أو مدي الاختلاف مع تلك العلوم، وله شكري وعرفاني من قام بذلك. وأقدم للقارئ براهيني التي استقرأتها من آيات الكتاب حول خلق آدم وأنه ليس خليفة لله في الأرض، وليس هو أول من خُلِقَ من طين، وإنما هو من سلالة خلقت قبله من الطين وهو انحدر منها.
قال تعالي:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (30_ البقرة).
إن كلمة (جاعل) من البراهين الهامة علي أن آدم كان مقيما في الأرض مع بني جنسه من قبل جعله إنسانا مثلنا ذا أطوار، فكلمة (جاعل) من الفعل جعل والفعل جعل يختلف في دلالته عن الأفعال: (صنع، خلق، أوجد، أحدث، فطر)، والفعل جعل يدل علي تحويل شيء من حال سابقة إلي حال جديدة من دون استبدال الشيء ذاته، والفعل جعل لا يدل إطلاقا علي الإيجاد من لا شيء، أي لا يدل علي الإيجاد من العدم، بل يدل علي إحداث تغيير في شيء ما مع الحفاظ علي ذات الشيء، ومثلا علي هذا قول الحق عن الأرض: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً).
(البقرة:22) فالأرض هي الأرض وجعلها فراشا لا يؤثر في ذاتها وحقيقتها وكونها أرضا، إنما جعلها فراشا لمن أراد أن يفترشها أو يتخذ منها فراشا. ومنه قول الحق: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (نوح:16) وجعل القمر نورا لا يؤثر علي ذات القمر وأصله أنه كوكب، ولو قمت بتحري آيات الكتاب التي ضمت الفعل (جعل) لوجدت أن الجعل لا يعني خلق شيء جديد مستقل بذاته، وإنما هو إحداث تغيير ما في شيء موجود من قبل، قال تعالي: (جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً) (النحل:81) وقال: (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً) (الزخرف:10). وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (الزخرف:3). وقال: (إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (70_ القصص).
إذن فكلمة (جاعل) في لسان قوم الرسول لا تعني خالق ولا تعني صانع ولا تعني موجد ولا تعني محدث ولا تعني فاطر، وإنما تعني بعض التغييرات في شيء موجود ومخلوق وقائم بالفعل ولا تعني خلق مخلوق جديد ليس له أصل من قبل، هذه الدلالة للكلمة هي الدلالة الحق في لسان قوم الرسول الذي نزل به القرآن، وهي الدلالة الحق لكل الآيات التي وردت في القرآن تحمل هذه الكلمة (جعل جاعل). فالجعل هو تغيير يحدث في الشيء عما كان عليه لا يذهب بأصل الشيء وحقيقته، فحينما يقول الحق عن آدم: (إني جاعل في الأرض خليفة) يعني أنه سيقوم ببعض التغيير لفرد من مخلوق وموجود وقائم بالفعل ليجعل منه خليفة، فإيراده لكلمة (جاعل) من دون الكلمات (خالق، صانع، فاطر، موجد، محدث) يدل من دون شك ولا ريب علي أن آدم كان مخلوقا موجودا قائما بالفعل قبل جعله خليفة في الأرض، أما كيفية هذا الوجود وكنهه فهو من اختصاص العلماء الذين يسيرون في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق كما أمر الله، والعجيب أن القرآن هو الكتاب الديني الوحيد في تاريخ البشرية الذي أمر الناس بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق، قال تعالي: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ ينشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) (20_ العنكبوت).
## الله لم يخلق آدم من طين:
خلافة آدم من البراهين المهمة كذلك علي أنه لم يخلق من الطين مباشرة أو ابتداء لقول الحق:
«إني جاعل في الأرض خليفة»، وقد بيننا فيما سبق أن آدم محال أن يكون خليفة الله في الأرض، لأن الخليفة استخلف في مكان أو أمر من كان قبله، فهو مأخوذ من أنه خلف غيره وقام مقامه، والخليفة لا يصبح خليفة لمن ليس من جنسه كالله أو الملائكة أو الجن أو غيرهم، فالخليفة ليس خليفة إلا لمن هو من بني جنسه حتي ولو تم بعض التعديل والتغيير عليه فلابد أن يكون من أصل المخلوف ومن نفس جنسه، فلا يصلح أن يخلف الإنسان الملائكة، ولا تصلح الملائكة في خلافة الإنسان، ولا يصلح أن يخلف الإنسان الجن، ولا تصلح الجن في خلافة الإنسان.
ونجد البرهان علي ذلك في قوله تعالي: «ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون» «الزخرف: 60»، لاحظ قوله: «منكم ملائكة» أي من جنسكم ملائكة فقوله: «ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة» أي لو نشاء لجعلنا «منكم» من نفس جنسكم ملائكة في الأرض يخلفون، لأنه لا يصلح أن يخلفكم ملائكة من جنس غير جنسكم فلو جعلنا ملائكة يخلفونكم سيكونون منكم كما جاء في الآية: «لجعلنا منكم ملائكة»، ومثلا علي ذلك رد الحق سبحانه علي أهل مكة حين طلبوا من الرسول أن ينزل الله عليهم ملكا خلفا لمحمد فأجابهم الله: «ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا» «9 - الأنعام» أي لو أنزلنا عليكم ملكا خلفا لمحمد كما طلبتم لجعلناه رجلا منكم لأنه لا يمكنكم أن تروا الملك أو تتعاملوا معه وهو في جنسه الملائكي، فلابد من جعله رجلا مثلكم، وفي هذا دلالة واضحة علي أن آدم كان خليفة لمخلوقات من نفس جنسه وليس خليفة لجنس من غير جنسه، فالخليفة لا يصلح أن يكون خليفة إلا لبني جنسه وحسب.
ومن ثم فآدم لم يخلقه الله هكذا من عدم، ولم يبدأ خلقه من طين كما يظن معظم الناس، إنما آدم انحدر من سلالة حيوانية كانت موجودة بالفعل في الأرض وقبل انقراضها أراد الله أن يصطفي منها آدم وزوجه فقام بتطويرهما إلي الطور الذي عليه الإنسان بصورته وتكوينه الحالي.
ويبدو أن آباء آدم الأولين كانوا يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء مما جعل الملائكة يقولون: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» وذلك لعلم الملائكة بأحوال سلف آدم الأولين وما كانوا يفعلون في الأرض، وليس كما يقول المفسرون ومن سار علي دربهم أن الله أعلم الملائكة بما سيصنع آدم وأولاده فقالوا ما قالوا. نقول: كلام المفسرين يناقض ما جاء في رد الله علي الملائكة ونفيه علمهم بشيء مما سيحدث وذلك حين رد عليهم بقوله: «إني أعلم ما لا تعلمون»، فكيف ينفي الله عنهم العلم بما سيحدث ثم يقول المفسرون إن الله أعلمهم بما سيحدث، أليس في هذا تناقض واضح؟. وكذلك قول المفسرين إن الجن كانوا في الأرض من قبل آدم وكانوا يفسدون فيها ويسفكون الدمــاء، وهذا قول لا برهان عليه إن هو إلا ظن والظن لا يغني من الحق شيئا.
## أسباب اعتراض الملائكة علي استخلاف آدم:
حين أخبر الله الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة، سارع الملائكة بالقول: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). ذلك أن آباء آدم الأولين الذين اصطفي الله منهم آدم كانوا يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، ما جعل الملائكة يعترضون علي استخلاف أفراد من نفس الجنس أو السلالة المفسدة في الأرض والسافكة للدماء مرة أخري، وقد يسأل سائل ويقول ما الجديد الذي سيحمله (آدم) من جنسه الموجود بالفعل في الأرض؟، أقول: هناك جديد، وهو أن آدم تم تطويره بأطوار جديدة لم تكن موجودة من قبل في جنسه السابقين، هذه الأطوار سوف نتحدث عنها فيما بعد، ومن أهم هذه الأطوار التي حدثت لآدم طور نفخ الروح، وطور التكليف، وطور تعليم آدم الأسماء كلها، هذا هو الجديد الذي حدث بخلافة آدم لبني جنسه، وهو حدث جديد علي الملائكة لم يكن لديهم علم به.
إذن فلو قال قائل: ما سبب اعتراض الملائكة علي استخلاف آدم مع أن الأمر معتاد لديهم أقول: إن السبب الحقيقي لاعتراض الملائكة أنهم ظنوا أن الخليفة سيكون بنفس الصفات السابقة لبني جنسه ولم يكن لديهم علم بعملية التطوير ونفخ الروح والتكليف وتعليم الأسماء كلها وغيرها من الأطوار الجديدة التي ستضاف إلي آدم ولم تكن في جنسه السابقين، فظنت الملائكة أن الأمر للتكرار وحسب، فرد الله عليهم بقوله، (إني أعلم ما لا تعلمون).
وكي أزيد الأمر إيضاحا أقول: إن اعتراض الملائكة جاء في اقتراب انقراض هذا الجنس وزواله لأن الخلافة كما قلنا لا تصلح إلا بالبعدية، ونحن جميعا نعلم أن من سنن الله في خلقه إيجاد مخلوقات ثم تنقرض كما حدث للديناصورات وغيرها من المخلوقات المنقرضة، ففي أواخر وجود هذا الجنس وقبل انقراضه الكامل وفي أواخر سلالاته أخبر الله الملائكة بأمر الخلافة لهذا الجنس الموشك علي الانقراض ثم اصطفي الله منه آدم، وكأن لسان حال الملائكة يريد أن يقول: كيف تجعل من هذا الجنس المفسد في الأرض السافك للدماء الموشك علي الانقراض والزوال كيف تجعل منه خليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء كما فعل أسلافه.
وقد يسأل سائل ويقول: وما دليلك علي أن الجنس الذي اصطفي الله منه آدم كان قد أوشك علي الانقراض مثل الديناصور؟، أقول: دليلي هو عدم وجود واحد من أفراد ذلك الجنس الذي اصطفي الله منه آدم في الأرض حاليا، بل قد كشفت لنا المكشوفات العلمية عن هياكل شبيهة بالإنسان، وقد يكشف لنا البحث والعلم مستقبلا عن هياكل عظمية وأحافير أخري لهذا الجنس المنقرض الذي انحدر منه آدم، وإذا لم يكن لذلك الجنس الذي جاء منه آدم وجود الآن في الأرض فهو برهان ساطع علي انقراضه، لأنه من المعلوم أن الله لم يصطف الجنس كله وإنما اصطفي منه آدم وزوجه، أما بقية الجنس فبقي كما هو علي خلقته الأولي التي لم يصبها التطوير حتي انقرض، وعدم وجوده في الأرض إلي الآن فيه دلالة علي انقراضه وفنائه.
ويؤيد كلامنا هذا ما جاء عن الفرس قديما أنهم قالوا: (إنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس شبيه بالإنسان اسمه الطَّم والرَّم وكان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعي (التِيتَان) وأن (زفس) كبير الأرباب في اعتقادهم (جلاهم من الأرض لفسادهم). أقول: ولم لا يكون كلام الفرس واليونان صحيحا، فاليونان أخذوا عن الفرس ذلك والفرس كان لديهم وحي إلهي (كما بينت في دراستي حول الأديان الشرقية) ذلك الوحي جاء به النبي زرادشت في كتابه (الأبستاق)، وهذا يتفق مع القرآن الكريم، بل ويدل علي وحدة المصدر وهو الوحي الإلهي.
## آدم لم يخلق وحده من نفس واحدة:
هل النفس الواحدة التي خلقنا الله منها هي نفس آدم كما يظن معظم الناس؟ لقد جاء في القرآن الكريم أن الله خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها وجاء هذا في عدة آيات منها: «يا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً» (1_ النساء). «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (98_ الأنعام).
«خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (6_ الزمر).
نلحظ أن كلمة (نفس) في الآيات جاءت نكرة، وجاء وصفها بواحدة نكرة كذلك، وزوجها جاءت نكرة كذلك، (نفس، واحدة، زوجها) مما يبرهن علي أن تلك النفس ليست هي آدم وإنما هي نفس أخري خلق الله منها آدم وزوجه، وعبارة (من نفس واحدة) يراد بها جنس من الخلق وليس شخصا مفردا بعينه، وبرهان ذلك أن كلمة نفس جاءت نكرة والنكرة تفيد العموم ما يعني أننا لم نخلق من نفس واحدة مفردة ولكن من جنس واحد منفرد له أفراد كثيرون خلق الله منهم آدم،
فلو كانت النفس الواحدة التي خلقنا الله منها هي آدم كما يفهم البعض لما جاءت نكرة في الآيات الأربع إذ لا معني للتنكير مع معرفتنا وعلمنا بآدم، أما وقد جاءت نكرة فهي لا تعني آدم علي الإطلاق لأن النكرة تفيد غير المعين وغير المعروف، وهل آدم غير معين وغير معروف؟، ويدل ذلك علي أن آدم خلق من أحد أفراد جنس تلك النفس الواحدة من ذكورها، وكذلك زوجه أو من تسمي بـ(حواء) خلقت من جنس تلك النفس الواحدة من إناثها، وليس من ضلع آدم كما يقول القائلون بغير علم.
إذن هل هي نفس واحدة منفردة؟ أم نفس واحدة يراد بها جنس من الخلق له أفراد كثيرون؟ الجواب: هي نفس واحدة يراد بها جنس واحد منفرد من الخلق له أفراد كثيرون ولدي عدة براهين، منها.
قوله: «خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها» لقد ذكر الله نفس واحدة يريد بها جمع من النفوس يحتويه جنس واحد منفرد له أفراد كثيرون، بدليل أن الله ذكر كلمة نفس نكرة مفردة في مواضع كثيرة من الكتاب وأراد بها الجمع، ومثله قوله تعالي: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِي لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْينٍ» (17_ السجدة). «وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ» (70_ الأنعام).
«يقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق» (68_ الفرقان). «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ» (34_ لقمان). «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» (16_ ق). «وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ» (18_ الحشر). «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَت» (14_ التكوير)،
ومن المعلوم أن كلمة نفس النكرة المفردة الواردة في الآيات السابقة ليس المقصود منها نفس واحدة مفردة بعينها، وإنما قصد منها جمع من النفوس وليس نفسا واحدة، وكذلك كلمة نفس النكرة المفردة المذكورة في آيات الخلق لا يعني بها نفسا واحدة مفردة بعينها وإنما عني جمع من النفوس من جنس واحد مفرد له نفوس كثيرة متعددة، ويدل علي ذلك ورود بعض الآيات عن الخلق ذكرت نفوس عدة وأزواج عدة كقوله تعالي:
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا» (72_ النحل). «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا» (21_ الروم). «فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً» (11_الشوري).
وليس هناك ما يمنع أن يكون لآدم إخوة وأخوات وأعمام وعمات وأخوال وخالات لهم أزواج وزوجات لهم بنين وبنات أي أسرة كاملة ثم تطويرهم مع آدم وزوجه وكان آدم وزوجه هما رأس هذه الأسرة، ويدل علي هذا قوله تعالي: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً» (38_ البقرة). والعلم والنظر والسير في الأرض كفيل أن يثبت الصواب من الخطأ.
## اصطفي الله آدم من بني جنسه:
قال تعالي: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي العَالَمِينَ) (33 ــ آل عمران).
وأصل الاصطفاء من الفعل (صفو) الذي يدل علي اختيار شيء وتخليصه وتصفيته من كل شائبة، والاصطفاء يكون من شيء أو علي شيء، فلم يرد علي الإطلاق في القرآن أو في كلام العرب أن الاصطفاء يكون من لا شيء أو علي لا شيء، فإذا وجد الاصطفاء وجد المصطفي منه أو المصطفي عليه، وإذا كان المصطفي فردًا فلابد أن يصْطَفَي من أفراد جنسه لا من أجناس أخري، فلا نقول: اصطفيت الحجر علي الناس أو من الناس، وإنما نقول اصطفيت الحجر من الأحجار أو علي الأحجار، واصطفيت فلانا من الناس أو علي الناس، فلا يصح اصطفاء شيء من غير جنسه أو علي غير جنسه، فهذا ليس له مثيل في الكتاب ولا في كلام العرب علي الإطلاق، بل لا وجود له في الواقع المشاهد والمنظور في الحياة أمامنا.
فاصطفاء الله لآدم من دون شك ولا ريب يبرهن علي وجود خلق كثيرين من جنسه اصطفاه الله منهم أو عليهم.. وهذا يدل بكل وضوح علي أنه هناك جنس من المخلوقات كان مليئًا بالشوائب والأدران الخلقية والسلوكية في تكوينه وخلقته، فاختار الله آدم من هذا الجنس فاصطفاه عليهم، بأن قام بتصفيته وتعديله وتطويره عن بقية أفراد جنسه، فنقاه من الشوائب التكوينية التي كانت في خلقته الوحشية الحيوانية والتي كانت في جميع أفراد جنسه، فنقي سلوكه وتكوينه وقام بتعديله في طور خلقي جديد مصطفي علي بقية أفراد جنسه، ثم قام بتقديمه علي بقية أفراد جنسه بما حدث له من تصفيه وتطوير.
ويؤكد مفهوم الاصطفاء هذا أن الله اصطفي إبراهيم علي قومه ومن قومه، واصطفي الله لإبراهيم وبنيه الدين (الإسلام) علي بقية الأديان الباطلة، واصطفي الله طالوت علي قومه، واصطفي مريم علي نساء العالمين، واصطفي موسي علي الناس، واصطفي من الملائكة رسلا، ولم يصطف الله البنات علي البنين، إذن فهناك أقوام وأمم وعالمين ونساء وأديان اصطفي الله منهم آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران وموسي ومريم، وكان هناك أديان كثيرة باطلة اصطفي الله منها الإسلام لإبراهيم وبنيه، فلا يمكن أن يثبت في بال أحد أن يكون الاصطفاء من لا شيء أو علي لا شيء، واصطفاء الله لآدم كان من جنس له وجود فعلي حقيقي في الأرض وليس اصطفاء من العدم كما يظن معظم الناس.
قال تعالي عن إبراهيم: (وَلَقَدِ اصْطَفَينَاهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (130 ــ البقرة).
(وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيعْقُوبُ يا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (132 ــ البقرة).
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّي يكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَينَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُمْ) (247 ــ البقرة). (وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاك وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ العَالَمِينَ) (42 ــ آل عمران).
(قالَ يا مُوسَي إِنِّي اصْطَفَيتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) (144 ــ الأعراف). (اللَّهُ يصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (75 ــ الحج).
(قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي) (59 ــ النمل).
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا) (32 ــ فاطر).
(أَصْطَفَي البَنَاتِ عَلَي البَنِينَ) (153 ــ الصافات).
(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَي مِمَّا يخْلُقُ مَا يشَاءُ) (4 ــ الزمر).
فلا يكون الاصطفاء إلا من جنس المصطفي منه أو عليه، ولا يكون اصطفاء من لا شيء أو علي لا شيء، فاصطفاء الله لآدم كان من جنسه الذين خلقهم الله من تراب ثم اصطفي منهم آدم، واصطفاء الله لآدم يدل من دون شك أو ريب علي وجود جنس من المخلوقات اصطفي الله منه آدم.
## أبناء آدم خلقوا من سلالة خلقت من طين:
يشير القرآن الكريم إلي أن خلق آدم وذريته تم علي مراحل في حياة ذلك الجنس من المخلوقات التي اصطفي الله منها آدم وزوجه، فالله قد خلق جنس آدم (آباءه الأولين) من الطين، كما نص عليه القرآن الكريم في العديد من المواقع، ويشير القرآن الكريم كذلك إلي أنه قد كان لذلك الجنس سلالات كثيرة من النسل، اختار الله من تلك السلالات سلالة بعينها اصطفي منها آدم وزوجه، أما ذرية آدم أي نسل آدم نفسه هو وزوجه فخلقهم الله من طور جديد غير الطور الذي خلق منه آدم وزوجه، فآدم وزوجه تم اصطفاؤهما من سلالة من تلك السلالات الكثيرة التي كان منها جنسه الوحشي الحيواني الذي كان موجودا في الأرض من قبل.
أما ذرية آدم فلم يصطفوا من تلك السلالة وإنما خلقوا من صلب آدم ومن رحم زوجه بعد التطوير الذي أدخل علي خلقتي آدم وزوجه، فخلق الله ذريته من ماء مهين، أي من المني الذي يخرج من صلب آدم، وهذا يدل علي وجود فجوة خلقية أو تمايز خلقي بين آدم وزوجه وبين ذريتهما، هذه الفجوة أو ذلك التمايز يكمن في طبيعة الخلقة التي تم تطوير آدم عليها من بين بني جنسه، وفي طبيعة خلقة ذريته التي جاءت من ماء مهين قد خرج من صلب آدم، وهذا ربما يدعو إلي القول إن هناك تمايزاً ما بين طبيعة خلقة آدم وزوجه وطبيعة خلقة ذريته، وقد نص القرآن الكريم علي أن الإنسان الحالي ليس من جميع ولد آدم وليس من جميع نسله، بل القرآن الكريم نص علي أن آدم كان له من نسله سلالات كثيرة اختار الله من كل تلك السلالات سلالة واحدة هي من بقيت إلي الآن، والعلم والبحث في الأرض والنظر كفيل بكشف ذلك والتحقق منه. أما برهان ذلك فما ورد في الكتاب، قال تعالي
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) (13 ــ المؤمنون). والفعل (سل) يدل علي نزع وخروج شيء من شيء، وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه، كسل السيف من الغمد، وسل الولد من الأب، وقيل للولد سليل. وجمع سليل: سلالة، وسلالة علي وزن فعالة وهو بناء للقلة كالقلامة والقمامة، وكان العرب يسمون الذرية سلالة، والسلالة في الآية الكريمة هم ذرية من جنس المخلوقات التي خلقها الله من طين حيث كانت لها سلالات كثيرة اختار الله من تلك السلالات سلالة واحدة تلك السلالة اصطفي الله منها آدم وزوجه، وليس المقصود بالسلالة عينة من الطين كما قال المفسرون، فكلمة سلالة لم ترد في كلام العرب ولا في القرآن الكريم إلا لمجموعة من الناس والذرية، ومن غير الصواب بل ومن الخروج علي النص والمعلوم القول إن السلالة هي الطين نفسه أو جزء منه، إنما السلالة هي سلالة من ذرية خلقت من الطين انسل منها آدم وزوجه.
ومن الأشياء التي تم تغييرها وجعلها في آدم أن نسله جُعِل من سلالة من ماء مهين، قال تعالي: (وَبَدَأَ خَلق لإِنْسَـانِ مِن طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مهِين) (8 ــ السجدة). أي جميع نسل آدم جعل من سلالة من ولد آدم، تلك السلالة جعلت من ماء مهين، وهذا يدل علي أن آدم وزوجه خلقا من سلالة خلقت من طين، ونسل آدم خلقوا من سلالة من سلالات ولد آدم خلقت من ماء مهين. وهذا يكشف لنا معلومة مهمة كما سبق أن قلنا وهي أن مكونات خلق آدم وزوجه تختلف عن مكونات خلق ذريته، فمكونات خلق آدم وزوجه كانت من سلالة من طين، ومكونات خلق نسله كانت من ماء مهين بعد تعديل آدم وتسويته ونفخ الروح فيه.
## أطوار خلق آدم كما جاءت في القرآن:
قال تعالي:
(مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (14 ــ نوح) إن خلق الإنسان لم يكن بغتة (فجأة) من الطين، ولم يكن مرة واحدة كما يظن كثير من الناس، إنما خلق الإنسان قد مر بأطوار عدة بدءًا من طور العدم وحتي طور الوفاة، والفعل (طور) يدل علي امتداد في شيء حالة بعد أخري، وهي المرة من الأفعال أو من الزمان، وتعدد الأطوار يكون في النوع وليس في التكرار، وهو مأخوذ من طوار الدار وهو ما امتد منها من البناء كالحد الذي يحدها،
ويقال عدا فلان طوره أي تجاوز حده، ومنه: فعل فلان كذا طورا بعد طور، أي تارة بعد تارة، وحالا بعد حال، ومنه قول الحق: (وقد خلقكم أطوارا) أي حدا بعد حد وتارة بعد تارة وحالا بعد حال، وقد ذكر الكتاب هذه الأطوار بدءًا من اللاشيء (العدم) وحتي الوفاة.
قال تعالي: (هل أتي علي الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (1 ــ الإنسان)، ثم طور التراب، ثم طور الماء وخلطه بالتراب، ثم طور الطين، ثم طور الطين اللازب، ثم طور الحمأ المسنون، ثم طور الصلصال شبيه الفخار، ثم طور النفس الواحدة (الجنس أو النوع)، ثم طور السلالات، ثم طور اصطفاء آدم من إحدي السلالات، ثم طور جعل الزوج، ثم طور التسوية، ثم طور التعديل، ثم طور التصوير، ثم طور نفخ الروح، ثم طور تعليم آدم الأسماء كلها، ثم طور الخلافة، ثم طور جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم طور الماء الدافق، ثم طور النطفة، ثم طور أمشاج النطفة، ثم طور الذكورة والأنوثة، ثم طور العلقة، ثم طور المضغة، ثم طور العظام، ثم طور اللحم، ثم طور إنشائه خلقا آخر، ثم طور إخراجه طفلا، ثم طور جعل وإنشاء السمع والبصر والفؤاد، ثم طور بلوغ الأشد، ثم طور جعله شعوبا وقبائل، ثم طور التعارف، ثم طور جعله نسبا وصهرا، ثم طور الشيخوخة، ثم الوفاة.
وهذه هي الأطوار كلها كما جاءت في الكتاب: قال تعالي :
(مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (14 ــ نوح) (أَوَلا يذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يكُ شَيئاً) (67 ــ مريم). (خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ) (37 ــ الكهف).
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً) (54 ــ الفرقان). (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ) (2 ــ الأنعام).
(إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ) (11 ــ الصافات). (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ) (26 ــ الحجر). (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (1 ــ النساء). (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ) (12 ــ المؤمنون).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) (12 ــ الأعراف). (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَي صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) (8 ــ الانفطار). (فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (29 ــ الحجر). (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) (4 ــ النحل).
(فَلْينظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ) (6 ــ الطارق). (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَي) (39 ــ القيامة). (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) (14 ــ المؤمنون). (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (54 ــ الفرقان). (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) (8 ــ السجدة).
(هَوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيوخاً وَمِنكُم مَّن يتَوَفَّي مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّي وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (67 ــ غافر).
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) (9 ــ السجدة). (يا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (13 ــ الحجرات).
نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر