مفاهيم شعرية بين القديم والحديث

تطور الشعر الحديث تطوراً كبيراً وتغيرت المفاهيم والقيم الجمالية فما كان جميلاً في الشعر القديم وما كان مطلوباً فيه لم يعد كذلك في الشعر الحديث فمن الجميل في الشعر القديم أن يتوقع المستمع الكلمة التي ستأتي وإذا وافقت توقعه دلت على موهبة الشاعر ومن ذلك قول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش‏

ثمانين حولاً لا أبالك‏

والمستمع للبيت سرعان ما سيتوقع أن الكلمة التي سيختتم بها الشاعر البيت هي : "يسأم" ومثل هذه القيمة الجميلة في الشعر القديم لم تعد كذلك في الشعر الحديث بل بات مطلوباً من الشاعر الحديث أن يفاجأ القارئ ويصدمه بكلمة غير متوقعة هذه إحدى قيم الجمال في الشعر الحديث والمشكلة أن القارئ المعاصر يحاكم الشعر الحديث وفق معايير الشعر القديم وهذا لا يصح لابد من تذوق الشعر الحديث وفق معطيات وقيم ومفاهيم جمالية وشعرية معاصرة تختلف عن قيم الشعر القديم ومفاهيمه ومعاييره فقد كانت قيمة التشبيه تقدر بمقدار المقاربة أي كلما كان المشبه به قريباً من المشبه كان التشبيه أجود ومن ذلك وصف ابن المعز للهلال :‏

وانظر إليه كزورق من فضة‏

قد أثقلته حمولة من عنبر‏

والتشبيه يقوم على خطاب العين ويعنى بالشكل واللون ولكن التشبيه في الشعر الحديث يقوم على خطاب الانفعال والعاطفة ويعتمد على الحس الجمالي ولا يهمه الشكل أو اللون أو المقاربة ومن ذلك قول بدوي الجبل :‏

رشفت صوتك في قلبي معتقة‏

لم تعتصر وضياء غير منظور‏

بل إن الشعر الحداثي يقوم على البعد بين المشبه والمشبه به ولا يبحث عن المقاربة ولا المطابقة ولا يدخل فيه الوعي أو الفهم ويقوم على الانفعال والخيال وهنا تبرز المباعدة كما يبرز الغموض لأن الخطاب ليس موجهاً للعقل إنما هو موجه للحس والوجدان وفيهما من الغموض ما فيهما وهو غموض السحر والجمال الذي لا يدرك بالعقل إنما يحس به المرء وينفعل ولا يجد له تفسيراً ولا تعليلاً ولا يخضعه للفهم ولا يطالبه بالمقاربة أو الوضوح .‏

يقول محمد عمران عن صوت من يحب :‏

صوتك الذي من ريحان وكرز‏

زهرة الينبوع‏

المتناسل من القصب والعسل‏

هذا الأزرق الأبيض القرنفلي‏

القميص المطرز بكآبة قمر‏

وعشق نرجسة‏

منديل القبلات هذا‏

وردة النحاس والذهب‏

رغيف الهواء الساخن‏

هذا البنفسجي صوتك‏

ذات صباح ذات مساء ذات ليل‏

آه يا حبيبتي‏

تحت أية حجر يدفن الهواء الأبله‏

هذا الصوت‏

إن المتلقي لهذا النص لا يمكن أن يبحث عن مشابهات أو مطابقات أو قرب أو بعد إنما يحس وينفعل ويدرك الجمال في هذا الصوت وفي الكون كله، لأن هذا الصوت هو جزء من الكون كله فالرؤية هنا كلية شاملة وليست جزئية محدودة وكذلك يجب أن تكون رؤية المتلقي .‏

وهنا سوف تثور غيرة القارئ على الشعر القديم وسوف يظن أن في هذا دعوة إلى التخلي عن الشعر القديم أو يظن أن في هذا تفضيلاً للشعر الحديث على الشعر القديم والأمر ليس كذلك فلا أحد يستطيع أن يلغي الشعر القديم والجاهل هو من يفضل عليه الشعر الحديث والأمر لا يتعلق بإلغاء ولا مفاضلة إنما يتعلق بأشكال من التعامل مع القديم والحديث فلا بد من التعامل مع القديم وفق قيمه ومفاهيمه وتقديره بالقياس عليها ولابد من التعامل مع الحديث وفق قيمه ومفاهيمه الجديدة وبالانطلاق منها ويبقى الجيد جيداً والضعيف ضعيفاً ، في القديم أو في الجديد ولابد في الحالتين من إعطاء كل ذي حق حقه بالانطلاق من داخله ومن الإقرار بالتطور .‏

ولابد في الواقع من النظر إلى الشعر في سيرورته عبر الزمن وصيرورته ، فالشعر حركة في الزمان وفي المكان ، وهو في تغير مستمر وليس الشعر كتلة واحدة ، ولا نمطاً واحداً ولا نوعاً واحداً ، هو جنس أدبي ولكنه يضم أنواعاً مختلفة والشعر مختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة وفي كل عصر أو في كل بيئة مفاهيم وأنماط وقيم مختلفة ومتغيرة، ولابد من ملاحظة الفرق بين عصر وعصر ومرحلة ومرحلة وبيئة وبيئة ونوع ونوع وشاعر وشاعر ، بل لابد من ملاحظة الفرق في شعر الشاعر نفسه بين مرحلة من عمره ومرحلة أخرى وأولى مهمات النقد ملاحظة الفرق .‏

ولعل أبرز سمات الشعر الحديث أنه شعر مقروء يقرؤه القارئ بالعين ويتأمله ويفكر فيه ومن أبرز سمات الشعر الحديث أنه شعر يكتب ولا ينظم يكتبه الشاعر باليد على الورق أو على الحاسوب في حين كان الشاعر في القديم ينظم الشعر، ينظم وهو يسير في حديقة أو في شارع أو في بادية ينظمه ويحفظ ما ينظم وقد يدونه بعد ذلك وقد لا يدونه ثم يلقيه على جمهور المستمعين، وهم جمهور واسع عريض ولابد أن يهزهم بإيقاعه الصاخب وموسيقاه ولابد أن يضمن وصول الشعر إليهم وتأثيره فيهم ، بل لابد أن يطمئن إلى فهمهم له فور سماعهم وكذلك هي أذواق الجمهور وكذلك هي رغباتهم فهم يريدونه شعراً واضحاً مفهوماً يدركون مقاصده فور سماعه ولا ضرورة لإعادة قراءته ويريدون أن يطربوا له بل الجيد فيه ما يهزهم ويطربهم واختلف نمط التلقي والإبداع فأصبح الشاعر يكتب والمتلقي يقرأ ، كان الشعر موجهاً غالباً إلى الأذن فأضحى موجهاً إلى العين ، كانت الوسيلة السماع فأصبحت القراءة ومع القراءة تكون المعاودة والمراجعة ومن هنا مال الشعر إلى الهمس وانعطف نحو العمق ودخل في الصعوبة والغموض والتعقيد هذا ما يمكن أن يدعى الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية وهو انتقال أحدث تغييرات كبيرة في الشعر .‏

وعندما كتب الشعر القديم وطبع لم يطبع على الشكل الذي كان يجب أن يطبع عليه فقد طبع في جدولين مراعاة للعروض فوزع على شطرين وكان حقه أن يطبع وفق الدفقة الشعورية ووفق انتهاء الجملة ولذلك يخطئ كثير ممن يقرؤون الشعر عندما يقفون في الحالات كلها عند نهاية الشطر الأول من القصيدة وفي كثير من الحالات يضيع المعنى إذ يكون من حق القراءة الصحيحة في بعض الحالات وصل الشطرين والوقوف في المكان الذي يتم فيها المعنى ومن ذلك قول الشاعر زهير بن أبي سلمى :‏

سعى ساعيا غيظ بن مرة، بعدما‏

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله‏

يميناً لنعم السيدان وجدتما‏

تبزل ما بين العشيرة بالدم‏

رجال بنوه من قريش وجرهم‏

على كل حال: من سحيل ومبرم‏

إن الوقوف في قراءة الأبيات السابقة عند نهاية الشطر الأول غير صحيحة لأن المعنى لا يتم والدفق الشعوري لا ينتهي والوقفات الصحيحة هي عند الفواصل التي وضعت في داخل الأبيات وكان من حق الأبيات أن تكتب على أسطر كما يكتب الشعر الحديث ومما لاشك فيه أن الشاعر زهير كان لا يقف في إنشاده الأبيات السابقة عند نهاية الأشطر إنما كان يقف في مواضع أخرى يتم فيها المعنى ولكن من أسف أن بعض القراء سيرفضون هذا وينكرونه وقد يعدونه تشويهاً للتراث ذلك لأنهم وجدوه على هذه الحالة فألفوه ولن يقبلوا التغيير .‏

وما يميز الشعر الحديث من الشعر القديم ليس الوزن ولا طريقة الطباعة فقد ظن بعض القراء كما ظن بعض الشعراء أن طباعة الشعر على أسطر تجعل منه شعراً حديثاً فأخذوا يوزعون بعض قصائدهم ذات الشطرين على أساس التفعيلة يجعل منه شعراً حديثاً وهذا الظن غير صحيح أيضاً لأن طباعة الشعر على أسطر أو كتابته وفق التفعيلة لا تجعل منه شعراً حديثاً فالمشكلة ليست في الوزن ولا البحر ولا التفعيلة إنما المشكلة في أمور أخرى تجعل من الشعر شعراً حديثاً .‏

ومن أمثلة ذلك الأسطر التالية للشاعر سليمان العيسى :‏

غيوب‏

ترتمي فيها غيوب‏

وأسرار‏

بوشوشة تذوب‏

أمد على التلال لهاث عمري‏

نضيع على الذرى ... أنا والغروب‏

بلادي‏

أي رائعة أغني ؟‏

وأي مجاهل النعمى أجوب ؟‏

المقطع متألق والشاعرية فيه عالية والعاطفة نحو الوطن متوهجة والإيقاع صارخ ولكن المقطع لا ينتمي إلى الحداثة وهو شعر تقليدي وكتابته على أسطر تنفق وطريقة إلقائه وتستجيب للدفقات الشعرية فيه ولكن هذه الطباعة لا تخرج به عن التقليدية ولا تدخل به في شعر التفعيلة فالمقطع هو في الحقيقة ثلاثة أبيات من البحر الوافر وقد وزعت على أسطر وكان المرجو لكل الشعر العربي أن يطبع على هذه الطريقة وفق الدفقة الشعورية ووفق اكتمال المعنى لا في شطرين وفق التقطيع العروضي .‏

لقد كان الشعر على مر التاريخ في حالة تطور مستمر وهو يتطور بتطور المجتمع ومن الغريب أن يقر بعض القراء والدارسين للشعر القدامى تطوره في حين ينكرون على الشعر الحديث تطوره وهم يزعمون أن الشعر القديم قام على قواعد وأصول في حين لم يمتلك الشعر الحديث مثل هذه القواعد والأصول وهم في الحقيقة واهمون فالشعر القديم في عصوره كافة لم يقم على قواعد وأصول إنما تطور الشعر ونهض واختلف من مرحلة إلى مرحلة وبعد انتهاء كل مرحلة كان النقاد يستخلصون القواعد والأصول من المرحلة السابقة ويأتي الشعراء المجددون فيرفضون تلك القواعد والأصول ويصنعون شعراً جديداً ومرة أخرى يكر الزمن ويستخلص النقاد القواعد والأصول ثم مرة أخرى يأتي شعراء مجددون ويرفضون ما وضع من قواعد وأصول وهكذا دواليك، أما الشعراء الذين تقيدوا بالقواعد والأصول فقد كانوا مقلدين .‏

شكرا اخي عماد على المعلومات و على جهودك
الله يعطيك العافية

شكرا عمدتي ع المعلومات الرائعة
دمت بكل حب

شكرااااااا
الزعيم
عبدالله العنزي

يعطيك العافية
مجهودك رائع
دمت مميز عزيزي

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

يعطيك العافية
مجهودك رائع
دمت مميز عزيزي

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

شكرا لك على هذا الموضوع القيم

بوركت اناملك

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

يسسسسسسسسسسسسسسسسلمو ماما

على موضوعك الجميل

ومجهودك الرائع

لك تحياتي

معلومات رائعه وموضوع اروع

شكرااااااااااا عماد على المعلومات

يسلموووووووووو يعطيك العافيه

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

مجهود رائع

واطلالة مميزة

واجمل باقات الورود انثرها لشخصك الكريم

سلمت الانامل ]

ننتظر جديدك

لا تحرمنا من المزيد

لك مودتي واحترامي

يسلمو كتير
الف شكر

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
تحياتي

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

تم نقل الموضوع لارشيف القسم

ارجوا المتابعه ولكم ارق تحية

شكرا للمجهود الرائع والمميز

عطاء وابداع جميل

ننتظر المزيد

تقبلو مروري

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

سعى ساعيا غيظ بن مرة، بعدما‏

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله‏

يميناً لنعم السيدان وجدتما‏

تبزل ما بين العشيرة بالدم‏

رجال بنوه من قريش وجرهم‏

على كل حال: من سحيل ومبرم‏

إن الوقوف في قراءة الأبيات السابقة عند نهاية الشطر الأول غير صحيحة لأن المعنى لا يتم والدفق الشعوري لا ينتهي والوقفات الصحيحة هي عند الفواصل التي وضعت في داخل الأبيات وكان من حق الأبيات أن تكتب على أسطر كما يكتب الشعر الحديث ومما لاشك فيه أن الشاعر زهير كان لا يقف في إنشاده الأبيات السابقة عند نهاية الأشطر إنما كان يقف في مواضع أخرى يتم فيها المعنى ولكن من أسف أن بعض القراء سيرفضون هذا وينكرونه وقد يعدونه تشويهاً للتراث ذلك لأنهم وجدوه على هذه الحالة فألفوه ولن يقبلوا التغيير .‏

وما يميز الشعر الحديث من الشعر القديم ليس الوزن ولا طريقة الطباعة فقد ظن بعض القراء كما ظن بعض الشعراء أن طباعة الشعر على أسطر تجعل منه شعراً حديثاً فأخذوا يوزعون بعض قصائدهم ذات الشطرين على أساس التفعيلة يجعل منه شعراً حديثاً وهذا الظن غير صحيح أيضاً لأن طباعة الشعر على أسطر أو كتابته وفق التفعيلة لا تجعل منه شعراً حديثاً فالمشكلة ليست في الوزن ولا البحر ولا التفعيلة إنما المشكلة في أمور أخرى تجعل من الشعر شعراً حديثاً .‏

ومن أمثلة ذلك الأسطر التالية للشاعر سليمان العيسى :‏

غيوب‏

ترتمي فيها غيوب‏

وأسرار‏

بوشوشة تذوب‏

أمد على التلال لهاث عمري‏

نضيع على الذرى ... أنا والغروب‏

بلادي‏

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

» الفرق بين القرآن والحديث القدسي وبين الحديث النبوي والحديث القدسي
» عين المحب - نجاح مساعيد - بطاقة فلاش شعرية
» قصص من التراث العربي القديم
» اغطية للكنب القديم قمة فى الروعة
» يت من الطراز القديم مع حداثة التكنولوجيا